أحكام مشددة- هل تنهي تركيا مسار السلام مع الأكراد؟

المؤلف: صالحة علام10.29.2025
أحكام مشددة- هل تنهي تركيا مسار السلام مع الأكراد؟

الأحكام القضائية الغليظة التي سطرتها محكمة أنقرة مؤخرًا في حق ثلة من الساسة، والبرلمانيين، والفاعلين الأكراد تمثل خاتمة المطاف لمسعى إقرار الأمن والاستقرار في كنف الدولة التركية، هذا المسعى الذي أرسى دعائمه الرئيس أردوغان في عام 2009، لتودي بذلك بأحلام وتطلعات الأكراد في التوصل إلى نقاط التقاء وتوافق مع الحكومة التركية، يتم بموجبها طي صفحة الاشتباكات المسلحة المستمرة بين الجانبين منذ بواكير ثمانينيات القرن المنصرم، تلك الاشتباكات التي أودت بحياة حشود غفيرة من المواطنين.

47 اتهامًا!

في بادرة مفاجئة لم يكن يتوقعها حتى أشد المتشائمين من الساسة الأكراد، أقرت المحكمة إنزال عقوبة قاسية بالسياسي والبرلماني الكردي والرئيس الأسبق لحزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين دميرتاش، حيث قضت بسجنه لمدة اثنتين وأربعين سنة، إثر توجيه سيول من الاتهامات طالته، بلغت سبعًا وأربعين تهمة، من بينها علاقته بحزب العمال الكردستاني، وتطاوله على مقام الرئيس، هذا بالإضافة إلى طائفة واسعة من الجنح والمخالفات الأخرى.

كما قضت المحكمة بسجن شريكته في رئاسة الحزب، فيغين يوكسكداغ، لمدة ثلاثين عامًا وثلاثة أشهر، وذلك بتهمة سعيها لزعزعة استقرار ووحدة الدولة، والتحريض على اقتراف أفعال إجرامية وتخريبية، والانخراط في الترويج لمنظمة إرهابية.

وفي سياق متصل، أصدرت المحكمة حكمًا بالسجن لمدة عشر سنوات على أحمد تورك، رئيس بلدية ماردين السابق، وذلك بتهمة انتمائه إلى منظمة إرهابية مسلحة، في إشارة واضحة إلى حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على أنه منظمة إرهابية.

وتفاديًا لاندلاع مظاهرات شعبية حاشدة للتعبير عن السخط والاستياء من هذه الأحكام الجائرة، بادرت السلطات المحلية بفرض حظر شامل على التجمعات والاحتجاجات لمدة أربعة أيام متتالية في كل من ديار بكر، وماردين، وسيرت، وبيتليس، وفان، وآغري، وشيرناق، وباتمان، وهكاري، وقارص، وهي المناطق التي يقطنها أغلبية كردية في شرق وجنوب شرق تركيا.

ردود فعل داخلية وخارجية

على الرغم من الحظر المفروض على التظاهرات المناهضة لهذه الأحكام المشددة، إلا أن ذلك لم يثنِ عن انطلاق موجة عارمة من ردود الفعل الواسعة النطاق على الصعيدين: الداخلي والخارجي، والتي اتسمت في غالبيتها العظمى بالغضب العارم الممزوج بالاستغراب والاستنكار، وأجمع الكل على أن هذا الحكم يفتقر إلى الدوافع القانونية الحقيقية، وأن دوافعه سياسية محضة.

ووصف سياسيون وناشطون أكراد الأحكام الصادرة عن محكمة أنقرة بأنها وصمة عار لن تمحى، وسوف تبقى تطارد مسيرة النظام القضائي التركي مدى الدهر، بينما أصدر الرئيسان المشاركان لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، الوريث الشرعي لحزب الشعوب الديمقراطي، بيانًا أعربا فيه عن رفضهما القاطع لهذه الأحكام، معتبرين إياها "مجزرة قانونية" تهدف إلى استئصال شأفة الساسة والثوريين والديمقراطيين الأكراد من المشهد السياسي في الدولة التركية.

أما أوزغور أوزيل، رئيس حزب الشعب الجمهوري، والذي يُعد من أبرز الساسة الأتراك الداعمين للقضية الكردية، فقد انتقد بحدة بالغة الحكم الصادر بحق كل من دميرتاش ويوكسكداغ، مؤكدًا أن قضية "كوباني" التي حوكما على خلفيتها هي قضية سياسية بامتياز.

وعلى الصعيد الخارجي، تلاقت وجهة نظر غونول تول، مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، مع ما ذهب إليه أوزيل، حيث أكدت أن القضية ذات خلفية سياسية، وأن دميرتاش يدفع ثمنًا باهظًا لتصريحات لاذعة سبق أن أدلى بها في وجه الرئيس أردوغان عام 2015، حينما صرح قائلًا: "لن نسمح لك بأن تصبح رئيسًا مرة أخرى"، واستدلت على صحة طرحها هذا بأن القضية التي يُعاقب عليها دميرتاش في عام 2024 قد وقعت أحداثها في عام 2014، إلا أنه لم يتم فتح تحقيق بشأنها إلا بعد مرور ست سنوات كاملة، أي في عام 2020!!.

التشكيك في منظومة العدالة

في غضون ذلك، أكد المقرر المعني بتركيا في الاتحاد الأوروبي، ناتشو سانشيز، أن تداعيات هذه الأحكام ستكون وخيمة على الملف الاقتصادي لأنقرة، وتقويضًا لمصداقية القضاء التركي، بل ولمصداقية الدولة التركية ذاتها، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى إحجام رؤوس الأموال عن الاستثمار في بيئة تحوم حولها الشكوك بشأن نزاهة منظومة العدالة.

وأشار إلى أن هذا الأمر سيقضي على الجهد المضني الذي بذله مؤخرًا وزير المالية والخزانة التركي، محمد شيمشك، خلال اجتماعاته مع نخبة من الاقتصاديين من دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل؛ بهدف الترويج لاقتصاد بلاده، وإقناع المستثمرين الأوروبيين بضخ المزيد من أموالهم فيه.

قد تبدو المسألة أشد تعقيدًا مما أشار إليه المسؤول الأوروبي، فمن المؤكد أن تداعيات إصدار مثل هذه الأحكام القضائية المشددة، وبهذا الكم الهائل من سنوات السجن، ستتجاوز الملف الاقتصادي لتطال ملفات أخرى لا تقل عنه أهمية، لا سيما وأن هذه الأحكام قد صدرت في خضم سياسة جديدة أعلن عنها الرئيس أردوغان، تنطلق من مبدأ الصلح والتصالح، وإعادة ترميم الجبهة الداخلية للبلاد التي تضررت بشدة جراء الحملات الدعائية العدائية التي تم انتهاجها خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة التي شهدتها البلاد.

هذا الصلح الذي استهله أردوغان باستقبال زعيم المعارضة، أوزغور أوزيل، في مقر حزب العدالة والتنمية، وإعلانه عن عزمه القيام بزيارة مماثلة لمقر حزب الشعب الجمهوري، الأمر الذي بث روحًا من التفاؤل والأمل في الأوساط السياسية التركية، بمن فيهم الساسة الأكراد، في إمكانية التوصل إلى حلول عقلانية للقضايا العالقة في المجتمع، والتي لا تزال تمثل تهديدًا لأمنه وسلامته.

حالة من الضبابية والإرباك

إلا أن صدور هذه الأحكام قد أدى إلى نشوء حالة من الغموض والتشويش، باتت تلف المشهد السياسي والقضائي برمته، ففي الوقت الذي أنصف فيه القضاء عبد الله زيدان - مرشح حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الفائز بمنصب رئيس بلدية فان، والمتهم بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني - وأمر بتسليمه إدارة البلدية، على الرغم من اعتراض حزب العدالة والتنمية على فوزه، يأتي اليوم ليصدر حكمًا قاسيًا بالسجن لسنوات طوال، على قيادات كردية بذات التهمة التي وجهت لزيدان!

وعلى صعيد آخر، نجد أن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي قد حقق فوزًا مدويًا في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث ظفر بعشر ولايات في جنوب شرق تركيا، ذات الأغلبية الكردية، وهو ما يشير إلى وجود هامش من الحرية والديمقراطية يسمح لمختلف التيارات والانتماءات العرقية بالانخراط في العمل السياسي، الأمر الذي ينفي عن الدولة الاتهامات الموجهة إليها بالتمييز والاضطهاد.

وفي الوقت ذاته، نرى أن الحزب ذاته الذي يؤكد على تمتعه بحضور قوي في أوساط الأكراد، وأن خطابه يتماشى مع توجهاتهم، حيث نجح في استقطاب أصوات 60% منهم، وتتركه الدولة ينشط في المجتمع، ويخوض الانتخابات، ويكون له تمثيل في البرلمان، ورؤساء بلديات، نجد السلطة تسارع إلى ملاحقته، والتلويح بإغلاقه وحظره، وملاحقة سياسييه ومحاكمتهم وحبسهم.

سياسة الحركة القومية المتشددة

يبدو جليًا للعيان أن حزب العدالة والتنمية يرزح تحت وطأة الضغوط التي تمارسها عليه السياسة المتطرفة التي يصر على انتهاجها حزب الحركة القومية، الشريك معه في الائتلاف الحكومي، ضد الأكراد، وسعيه الدؤوب لإغلاق أحزابهم، ودعوته إلى ملاحقة قياداتهم السياسية، جنبًا إلى جنب مع تصاعد حدة الخطاب القومي التركي، وهيمنته على عقول الأتراك الذين باتوا يفاخرون اليوم بكونهم "أتراكًا"، وسيطرة هذا التيار على الخطاب السياسي للدولة التي عادت لترفع مؤخرًا شعارًا براقًا: "أمة واحدة، علم واحد، لغة واحدة".

ومن المتوقع أن يظل هذا النهج هو السمة البارزة للسياسة التركية تجاه الأكراد، طالما بقي الائتلاف بين الحزبين قائمًا، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل أية مساعٍ يبذلها الرئيس أردوغان، سواء لعقد مصالحة حقيقية مع أحزاب المعارضة التركية، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري، الحليف الوثيق لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أو لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية، أو للوصول إلى توافق مع أحزاب المعارضة حول وضع دستور جديد للبلاد، وذلك بعد الشكوك التي ساورت بعضها حيال النوايا الخفية الكامنة وراء هذه الدعوة.

تدشين مرحلة جديدة

إن الرسالة التي استنبطها الجميع من طبيعة الأحكام الصادرة عن المحكمة، تشي بأنها إيذان ببدء حقبة جديدة من السياسات المتشددة ضد الأكراد على وجه الخصوص، لا سيما في ظل الاستعدادات الجارية لشن حملة عسكرية جديدة في كل من شمال العراق وشمال شرق سوريا، وأن إيجاد حل سلمي وسياسي للقضية الكردية قد بات أمرًا بعيد المنال.

وهذا الأمر من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام جميع الاحتمالات، حيث من المرجح أن تشهد تركيا صيفًا لاهبًا بكل المقاييس، مع احتمال أن يعاود حزب العمال الكردستاني ممارسة أنشطته التي تستهدف المصالح التركية، وهي الفرضية التي تبدو أنها تقف وراء القرارات التي تم اتخاذها مؤخرًا؛ بهدف تأمين المطارات المدنية والمنافذ الحدودية؛ تحسبًا لأية مواجهات محتملة.

ختامًا، يبدو أن الرغبة في عقد مصالحة حقيقية بين الائتلاف الحاكم وأحزاب المعارضة التركية، بهدف تدشين صفحة جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار وضمان السلم الاجتماعي، ليست سوى محاولة لكسب المزيد من الوقت، ريثما يستعيد الائتلاف الحاكم مكانته وقوته التي استنزفها خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة